مقدمة:

مرض أبو دغيم (Familial Mediterranean Fever - FMF) هو اضطراب وراثي التهابي مزمن يتميز بنوبات متكررة من الحمى، وآلام في البطن والصدر، والتهاب المفاصل. يُعرف أيضًا باسم "الحمى العائلية المتوسطية" نظرًا لانتشاره بشكل خاص في المناطق المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوروبا الجنوبية الشرقية. على الرغم من أنه ليس مرضًا معديًا أو قاتلاً في حد ذاته، إلا أن المضاعفات طويلة الأمد قد تكون خطيرة إذا لم يتم علاجه بشكل مناسب. يهدف هذا المقال إلى تقديم دراسة علمية شاملة حول مرض أبو دغيم، تشمل تاريخه، وأسبابه الوراثية، وآلياته المرضية، والأعراض السريرية، وطرق التشخيص، وخيارات العلاج، بالإضافة إلى أمثلة واقعية لتوضيح الجوانب المختلفة للمرض.

1. التاريخ والاكتشاف:

تم وصف مرض أبو دغيم لأول مرة في الأدبيات الطبية منذ قرون، حيث أشار الأطباء العرب في العصور الوسطى إلى حالات مشابهة للأعراض المميزة للمرض. ومع ذلك، لم يتم التعرف عليه ككيان سريري منفصل حتى القرن العشرين. في عام 1945، قام الطبيب الإسرائيلي يعقوب ليفي بتقديم وصف تفصيلي للمرض بناءً على دراسته لسلسلة من الحالات العائلية التي تعاني من نوبات متكررة من الحمى والتهاب الصفاق. أطلق ليفي على المرض اسم "الحمى العائلية المتوسطية"، وأكد على أهمية العامل الوراثي في تطور المرض.

2. الأسباب الوراثية:

مرض أبو دغيم هو مرض وراثي متنحي، مما يعني أن الشخص يجب أن يرث نسختين من الجين المعيب (واحدة من كل والد) لكي يصاب بالمرض. الجين المسؤول عن مرض أبو دغيم هو MEFV الموجود على الكروموسوم 16p13.3. هذا الجين يوفر التعليمات اللازمة لصنع بروتين يسمى "بروتيروس" (pyrin)، وهو جزء من نظام المناعة الفطري الذي يلعب دورًا في تنظيم الاستجابة الالتهابية.

تم تحديد أكثر من 40 طفرة مختلفة في جين MEFV مرتبطة بمرض أبو دغيم، ولكن بعض الطفرات أكثر شيوعًا من غيرها. الطفرة الأكثر شيوعًا هي M694V، والتي تمثل حوالي 30-75٪ من الحالات في مختلف المجموعات السكانية. تختلف نسبة انتشار هذه الطفرات بين المجموعات العرقية والجغرافية المختلفة. على سبيل المثال، تعتبر طفرة M694V أكثر شيوعًا في اليهود السفارديم والترك والأرمن مقارنةً بالمجموعات الأخرى.

3. الآليات المرضية:

على الرغم من أن الوظيفة الدقيقة لبروتين البروتيروس لا تزال قيد الدراسة، إلا أنه يُعتقد أنه يلعب دورًا حاسمًا في تنظيم الالتهاب عن طريق التحكم في تنشيط البروتين المسؤول عن الاستجابة المناعية الفطرية. الطفرات في جين MEFV تؤدي إلى إنتاج بروتين بروتيروس غير وظيفي أو معيب، مما يعطل قدرة الخلايا المناعية على تنظيم الاستجابة الالتهابية بشكل صحيح.

نتيجة لذلك، يحدث تنشيط مفرط للخلايا المناعية وإطلاق كميات كبيرة من السيتوكينات الالتهابية، مثل إنترلوكين-1 بيتا (IL-1β). هذه السيتوكينات تسبب الالتهاب والألم والحمى التي تميز نوبات مرض أبو دغيم. الآلية الدقيقة التي تؤدي إلى بدء النوبات لا تزال غير مفهومة تمامًا، ولكن يُعتقد أن العوامل البيئية والتوتر النفسي قد تلعب دورًا في تحفيزها.

4. الأعراض السريرية:

تتميز أعراض مرض أبو دغيم بتنوعها وتذبذبها بين الأفراد. تبدأ النوبات عادةً في مرحلة الطفولة أو المراهقة، ولكن يمكن أن تظهر في أي عمر. تشمل الأعراض الأكثر شيوعًا ما يلي:

الحمى: ترتفع درجة حرارة الجسم بشكل مفاجئ ويمكن أن تصل إلى 38-40 درجة مئوية. تستمر الحمى عادةً من 24 إلى 72 ساعة.

آلام البطن: غالبًا ما تكون الآلام شديدة ومتقطعة، وتتركز في الربع السفلي الأيمن من البطن. يمكن أن يصاحبها غثيان وقيء وإسهال.

آلام الصدر: تظهر على شكل ألم حاد في الصدر، وقد تشبه آلام التهاب الجنبة أو التهاب التامور.

التهاب المفاصل: يؤثر عادةً على المفاصل الكبيرة مثل الركبتين والكاحلين والمرفقين. يتميز الالتهاب بالألم والتورم والاحمرار.

طفح جلدي: قد يظهر طفح جلدي مؤقت على شكل بقع حمراء أو نتوءات صغيرة على الجلد.

بالإضافة إلى هذه الأعراض الرئيسية، قد يعاني بعض المرضى من أعراض أخرى مثل الصداع والتعب وآلام العضلات والتهاب الأغشية المحيطة بالعين (التهاب القزحية).

أمثلة واقعية:

المريض الأول: طفل يبلغ من العمر 8 سنوات، يعاني من نوبات متكررة من آلام البطن والحمى. تم تشخيص إصابته بمرض أبو دغيم بعد إجراء اختبار وراثي أكد وجود طفرتين في جين MEFV.

المريض الثاني: امرأة تبلغ من العمر 35 عامًا، تعاني من التهاب المفاصل المزمن وآلام في الصدر. تم تشخيص إصابتها بمرض أبو دغيم بعد استبعاد الأسباب الأخرى المحتملة لالتهاب المفاصل.

المريض الثالث: رجل يبلغ من العمر 50 عامًا، يعاني من نوبات متكررة من الحمى وآلام البطن. كان والده وجدته مصابين أيضًا بنفس الأعراض، مما يشير إلى وجود تاريخ عائلي للمرض.

5. التشخيص:

يعتمد تشخيص مرض أبو دغيم على مجموعة من العوامل، بما في ذلك التاريخ الطبي للمريض والفحص البدني والاختبارات المعملية. لا يوجد اختبار واحد يمكنه تأكيد التشخيص بشكل قاطع، ولكن الاختبارات التالية يمكن أن تساعد في دعم التشخيص:

تحاليل الدم: قد تظهر تحاليل الدم ارتفاعًا في عدد خلايا الدم البيضاء ومستويات السيتوكينات الالتهابية مثل بروتين سي التفاعلي (CRP) وسرعة ترسب الدم (ESR).

الاختبارات الوراثية: يعتبر الاختبار الوراثي هو المعيار الذهبي لتشخيص مرض أبو دغيم. يتم تحليل الحمض النووي للمريض للكشف عن الطفرات في جين MEFV.

التصوير الطبي: قد تستخدم تقنيات التصوير مثل الأشعة السينية أو التصوير المقطعي المحوسب (CT) لاستبعاد الأسباب الأخرى للأعراض، مثل التهاب الزائدة الدودية أو التهاب القولون.

6. العلاج:

لا يوجد علاج شافٍ لمرض أبو دغيم، ولكن يمكن التحكم في الأعراض وتقليل تكرار النوبات باستخدام مجموعة متنوعة من العلاجات. تشمل خيارات العلاج ما يلي:

الكولشيسين: هو الدواء الأكثر شيوعًا المستخدم لعلاج مرض أبو دغيم. يساعد الكولشيسين على تقليل الالتهاب وتخفيف الأعراض ومنع تكرار النوبات.

الأدوية المضادة للالتهابات غير الستيرويدية (NSAIDs): يمكن استخدامها لتخفيف الألم والالتهاب خلال النوبات الحادة.

الكورتيكوستيرويدات: يمكن استخدامها في حالات نادرة لعلاج النوبات الشديدة التي لا تستجيب للكولشيسين أو NSAIDs.

العلاجات البيولوجية: مثل الأدوية المضادة لـ IL-1β (مثل أناكينرا وكانيوكينوماب) قد تكون فعالة في علاج المرضى الذين لا يستجيبون للعلاجات التقليدية.

بالإضافة إلى العلاج الدوائي، يمكن أن تساعد التدابير غير الدوائية مثل الراحة وتجنب الإجهاد والالتزام بنظام غذائي صحي في تحسين نوعية حياة المرضى.

7. المضاعفات:

على الرغم من أن مرض أبو دغيم ليس عادةً مهددًا للحياة، إلا أنه يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة إذا لم يتم علاجه بشكل مناسب. تشمل هذه المضاعفات:

الفشل الكلوي (الاعتلال الكبيبي): هي أخطر مضاعفة لمرض أبو دغيم، وتحدث نتيجة لتراكم بروتين الأميلويد في الكلى.

التهاب الأعصاب: يمكن أن يؤدي إلى ضعف العضلات وفقدان الإحساس.

التهاب الأوعية الدموية: يمكن أن يؤثر على أعضاء مختلفة في الجسم.

8. الخلاصة:

مرض أبو دغيم هو اضطراب وراثي التهابي مزمن يتطلب تشخيصًا مبكرًا وعلاجًا مناسبًا للسيطرة على الأعراض ومنع المضاعفات طويلة الأمد. مع التقدم في الفهم الآليات المرضية للمرض وتطوير علاجات جديدة، يمكن للمرضى المصابين بمرض أبو دغيم أن يعيشوا حياة طبيعية ونشطة. من المهم أن يكون الأطباء والمختصون على دراية بهذا المرض وأن يقدموا الدعم والرعاية اللازمين للمرضى وعائلاتهم.

المراجع:

Ben-Chetrit, E., et al. "Familial Mediterranean fever." Lancet 364.9432 (2004): 387-397.

Touitou, I., et al. "The genetics of familial Mediterranean fever: genotype-phenotype correlations and implications for diagnosis and management." Journal of Autoimmunity 35.1 (2010): 63-70.

Lazarus, N., et al. "Familial Mediterranean Fever: A Comprehensive Review." Israel Medical Association Journal 14.9 (2012): 586–591.

Website of the Familial Mediterranean Fever Foundation: [https://fmfassociation.org/](https://fmfassociation.org/)

ملاحظة: هذا المقال يقدم معلومات عامة حول مرض أبو دغيم ولا ينبغي اعتباره بديلاً عن المشورة الطبية المتخصصة. إذا كنت تعتقد أنك أو أحد أفراد عائلتك قد يكون مصابًا بمرض أبو دغيم، فيرجى استشارة الطبيب للحصول على التشخيص والعلاج المناسبين.