مقدمة:

الفُصَام (Schizophrenia) هو اضطراب نفسي مزمن وشديد يؤثر على طريقة تفكير الشخص، وشعوره، وتصرفه. يُعتبر من بين أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا وتعطيلًا، حيث يصيب حوالي 1% من سكان العالم. غالبًا ما يبدأ الفُصَام في سن المراهقة أو بداية البلوغ، ويمكن أن يؤدي إلى صعوبات كبيرة في الحياة اليومية، بما في ذلك العلاقات الاجتماعية والعمل والدراسة. على الرغم من عدم وجود علاج شافٍ للفُصَام حتى الآن، إلا أن العلاج المبكر والمستمر يمكن أن يساعد الأشخاص المصابين على عيش حياة مُنتجة وذات جودة.

1. تاريخ الفُصَام وتطوره المفاهيمي:

لم يُعتبر الفُصَام دائمًا اضطرابًا نفسيًا متميزًا. في الماضي، كان يُنظر إلى الأعراض التي نربطها بالفُصَام اليوم على أنها علامات على التمسك الشيطاني أو الجنون. في عام 1895، قدم الطبيب النفسي الألماني إميل كريبيلين (Emil Kraepelin) أول وصف مُفصل للفُصَام، حيث ميزه عن الاضطرابات العقلية الأخرى بناءً على مساره السريري وأعراضه المميزة. أطلق عليه اسم "ديمانسيا بريكوكس" (Dementia Praecox)، بمعنى الخرف المبكر، لأنه لاحظ أن المرض غالبًا ما يبدأ في سن مبكرة ويؤدي إلى تدهور تدريجي في الوظائف العقلية.

في بداية القرن العشرين، بدأ الطبيب النفسي السويسري يوجين بلولر (Eugen Bleuler) في تطوير فهمنا للفُصَام بشكل أكبر. اقترح مصطلح "الفُصَام" لوصف التشقق أو الانفصال بين العمليات الفكرية والعاطفية والسلوكية. كما حدد "الأعراض الأربعة A" المميزة للفُصَام:

اضطرابات التفكير (Association): صعوبة في تنظيم الأفكار وربطها ببعضها البعض بشكل منطقي.

تأثير مسطح (Affect): انخفاض أو غياب الاستجابة العاطفية.

تبلد عاطفي (Avolition): نقص الدافع والقدرة على بدء الأنشطة وإكمالها.

اضطرابات في الإدراك (Autism): انسحاب من الواقع الاجتماعي والانغماس في عالم داخلي خاص.

خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت نظريات جديدة حول أسباب الفُصَام، بما في ذلك نظرية الدوبامين التي تفترض أن زيادة نشاط الدوبامين في الدماغ تلعب دورًا رئيسيًا في ظهور الأعراض الذهانية. كما ساهمت الأبحاث في علم الوراثة في تحديد الجينات المحتملة المرتبطة بالفُصَام.

2. أعراض الفُصَام:

يمكن أن تختلف أعراض الفُصَام بشكل كبير من شخص لآخر، ولكنها عادة ما تُصنف إلى ثلاث فئات رئيسية: الأعراض الإيجابية، والأعراض السلبية، والأعراض المعرفية.

الأعراض الإيجابية (Positive Symptoms): هي أعراض "إضافة" أو تشوهات في السلوك الطبيعي. تشمل هذه الأعراض:

الهلوسات (Hallucinations): تجارب حسية زائفة تحدث دون وجود محفز خارجي. يمكن أن تكون الهلوسات سمعية (سماع أصوات)، بصرية (رؤية أشياء غير موجودة)، شمية (شم روائح غير موجودة)، تذوقية (تذوق طعم غير موجود)، أو جسدية (الشعور بأحاسيس غير حقيقية). الهلوسات السمعية هي الأكثر شيوعًا، وغالبًا ما تكون على شكل أصوات تعليق أو انتقاد أو إصدار أوامر.

الأوهام (Delusions): معتقدات خاطئة وثابتة لا تتفق مع الواقع ولا يمكن تغييرها بالعقل أو الأدلة. تشمل أنواع الأوهام الشائعة أوهام الاضطهاد (الاعتقاد بأن شخصًا ما يحاول إيذاء الشخص)، وأوهام العظمة (الاعتقاد بأن الشخص لديه قدرات خارقة أو أنه شخصية مهمة)، وأوهام الهذيان (الاعتقاد بأشياء غريبة وغير منطقية).

اضطراب التفكير (Thought Disorder): صعوبة في تنظيم الأفكار وربطها ببعضها البعض بشكل منطقي. يمكن أن يظهر هذا الاضطراب على شكل "قفزات فكرية" (Flight of Ideas) حيث ينتقل الشخص بسرعة من موضوع إلى آخر دون أي رابط واضح، أو على شكل "تشتت التفكير" (Disorganized Thinking) حيث تكون الأفكار غير متماسكة وغير مفهومة.

سلوك غريب أو غير طبيعي (Bizarre Behavior): أفعال أو تصرفات غير عادية أو غير متوقعة لا تتناسب مع السياق الاجتماعي والثقافي.

الأعراض السلبية (Negative Symptoms): هي أعراض "نقص" أو انخفاض في الوظائف الطبيعية. تشمل هذه الأعراض:

تبلد عاطفي (Flat Affect): انخفاض أو غياب الاستجابة العاطفية، مما يجعل الشخص يبدو بلا مبالاة أو غير مهتم. قد يظهر الشخص تعابير وجه محدودة ونبرة صوت رتيبة.

نقص الدافع (Avolition): نقص الدافع والقدرة على بدء الأنشطة وإكمالها. قد يجد الشخص صعوبة في الاعتناء بنفسه أو القيام بالمهام اليومية.

الانسحاب الاجتماعي (Social Withdrawal): تجنب التفاعل مع الآخرين والانعزال عن المجتمع. قد يفقد الشخص الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية والأنشطة التي كان يستمتع بها سابقًا.

قلة الكلام (Alogia): انخفاض في كمية أو محتوى الكلام. قد يجيب الشخص على الأسئلة بإجابات قصيرة ومقتضبة، أو يتحدث بشكل غير واضح وغير متماسك.

الأعراض المعرفية (Cognitive Symptoms): هي صعوبات في العمليات العقلية مثل الذاكرة والانتباه والوظائف التنفيذية. تشمل هذه الأعراض:

صعوبة في الانتباه (Attention Deficits): صعوبة في التركيز على المهام أو تجاهل المشتتات.

مشاكل في الذاكرة (Memory Problems): صعوبة في تذكر المعلومات الجديدة أو استرجاع الذكريات القديمة.

ضعف الوظائف التنفيذية (Executive Dysfunction): صعوبة في التخطيط والتنظيم وحل المشكلات واتخاذ القرارات.

أمثلة واقعية:

حالة سارة: سارة، وهي شابة تبلغ من العمر 25 عامًا، بدأت تعاني من أعراض الفُصَام في بداية العشرينات من عمرها. بدأت تسمع أصواتًا تهتف باسمها وتوجه إليها اتهامات كاذبة. كما أنها كانت تعتقد أن جيرانها يحاولون التجسس عليها والتآمر ضدها. أصبحت سارة منعزلة عن أصدقائها وعائلتها، ورفضت الذهاب إلى العمل أو المدرسة.

حالة أحمد: أحمد، وهو رجل يبلغ من العمر 35 عامًا، عانى من نوبة فصامية حادة بعد تخرجه من الجامعة. بدأ يعاني من اضطراب في التفكير، حيث كان يتحدث بشكل غير متماسك وغير منطقي. كما أنه كان يعاني من تباطؤ في الحركة والتعبير العاطفي، وفقد الاهتمام بالأنشطة التي كان يستمتع بها سابقًا.

حالة ليلى: ليلى، وهي فتاة مراهقة تبلغ من العمر 16 عامًا، بدأت تعاني من أعراض الفُصَام بعد تعرضها لصدمة نفسية. بدأت تعاني من هلوسات بصرية، حيث كانت ترى أشياء غير موجودة في محيطها. كما أنها كانت تعاني من صعوبة في التركيز والانتباه في المدرسة، وتدهور في أدائها الأكاديمي.

3. أسباب الفُصَام:

لا يوجد سبب واحد للفُصَام، بل هو نتيجة تفاعل معقد بين عوامل وراثية وبيولوجية ونفسية واجتماعية.

العوامل الوراثية: تلعب الوراثة دورًا مهمًا في زيادة خطر الإصابة بالفُصَام. إذا كان لدى أحد أفراد العائلة (مثل الأب أو الأم أو الأخ) الفُصَام، فإن خطر إصابة الشخص بالمرض يزداد بشكل كبير. ومع ذلك، لا يعني هذا أن الوراثة هي المصير المحتوم، حيث أن العديد من الأشخاص الذين لديهم تاريخ عائلي للفُصَام لا يصابون به أبدًا.

العوامل البيولوجية: تشمل هذه العوامل الاختلالات في كيمياء الدماغ (مثل زيادة نشاط الدوبامين)، وتشوهات في بنية ووظيفة الدماغ، والتعرض للعدوى أو المضاعفات أثناء الحمل أو الولادة.

العوامل النفسية: يمكن أن تساهم التجارب الصدمية في مرحلة الطفولة (مثل الإيذاء الجسدي أو الجنسي أو العاطفي) والإجهاد الشديد في زيادة خطر الإصابة بالفُصَام.

العوامل الاجتماعية: يمكن أن تلعب العزلة الاجتماعية والفقر والتمييز دورًا في تفاقم أعراض الفُصَام وزيادة خطر الانتكاس.

4. تشخيص الفُصَام:

يعتمد تشخيص الفُصَام على تقييم شامل من قبل طبيب نفسي متخصص. يشمل التقييم:

المقابلة السريرية: يتحدث الطبيب النفسي مع الشخص المصاب وأفراد عائلته لجمع معلومات حول الأعراض والتاريخ الطبي والنفسي والاجتماعي.

الفحص العقلي (Mental Status Examination): يقوم الطبيب النفسي بتقييم المظهر والسلوك والكلام والتفكير والمشاعر والإدراك لدى الشخص المصاب.

الاختبارات النفسية: يمكن استخدام الاختبارات النفسية لتقييم الوظائف المعرفية والعاطفية للشخص المصاب.

الفحوصات الطبية: قد يطلب الطبيب إجراء فحوصات طبية لاستبعاد الأسباب العضوية الأخرى للأعراض.

لتشخيص الفُصَام، يجب أن يعاني الشخص من اثنين أو أكثر من الأعراض الرئيسية (مثل الهلوسات والأوهام واضطراب التفكير والسلوك الغريب) لمدة شهر واحد على الأقل، وأن يكون المرض يؤثر بشكل كبير على وظائفه اليومية.

5. علاج الفُصَام:

يهدف علاج الفُصَام إلى تخفيف الأعراض وتحسين الوظائف الاجتماعية والمهنية والشخصية للشخص المصاب. يشمل العلاج عادةً:

الأدوية المضادة للذهان (Antipsychotic Medications): تساعد هذه الأدوية على تقليل أعراض الفُصَام الإيجابية مثل الهلوسات والأوهام واضطراب التفكير.

العلاج النفسي (Psychotherapy): يمكن أن يساعد العلاج النفسي الشخص المصاب على فهم المرض والتعامل مع الأعراض وتطوير مهارات التأقلم. تشمل أنواع العلاج النفسي الشائعة العلاج السلوكي المعرفي والعلاج الأسري والعلاج الجماعي.

التأهيل النفسي الاجتماعي (Psychosocial Rehabilitation): يهدف هذا النوع من العلاج إلى مساعدة الشخص المصاب على استعادة الوظائف الاجتماعية والمهنية والشخصية التي فقدها بسبب المرض. يشمل التأهيل النفسي الاجتماعي التدريب المهني والعلاج الوظيفي وبرامج الدعم الاجتماعي.

العناية المستمرة: يحتاج الأشخاص المصابون بالفُصَام إلى عناية مستمرة ومتابعة منتظمة مع الطبيب النفسي لضمان استقرار حالتهم ومنع الانتكاس.

الخلاصة:

الفُصَام هو اضطراب نفسي معقد وشديد يتطلب علاجًا شاملاً ومستمرًا. على الرغم من عدم وجود علاج شافٍ للمرض حتى الآن، إلا أن العلاج المبكر والمناسب يمكن أن يساعد الأشخاص المصابين على عيش حياة مُنتجة وذات جودة. من المهم التغلب على الوصمة المرتبطة بالاضطرابات النفسية وتشجيع الأشخاص الذين يعانون من الفُصَام على طلب المساعدة والدعم. مع زيادة الوعي والفهم، يمكننا تحسين حياة الأشخاص المصابين بالفُصَام وعائلاتهم.